القِيم بين النظرية والتطبيق د. عبدالقوي القدسي

 

 

               د. عبدالقوي القدسي

يحلو للكثيرين- وانا واحد منهم- أن يتحدث عن القيم المبثوثة في تضاعيف آيات القرآن، ويغوص آخرون للتنقيب عن لآلئ القيم التي سادت في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين.

“القِيَم” التي نتحدث عنها هي مجموعة السلوكيات، والأخلاق التي نرغب أن تسود في المجتمع، فالعدل، والشورى، والصدق، والأمانة، والحرية والمساواة، وغيرها من المصطلحات هي في الحقيقة “قيَم مرغوبة” بينما الظلم، والتسلط، والتفرقة العنصرية، والرشوة، والخيانة، وكل ما يعكر صفو الحياة هي قيم سلبية تجاهد المجتمعات لمحاربتها، والقضاء عليها.

لا نريد أن نقف عند مجرد المصطلح، ونثير معركة حول كلمة”قيمة” وهل هي أصيلة في تراثنا أم دخيلة ؟! فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء، كما يقال، ولكننا نتفق بأن العدل يتوافق مع الفطرة الإنسانية بينما الظلم منافٍ لها، والبشر- بمختلف توجهاتهم وعقائدهم- يحبون الصدق والأمانة وينبذون الكذب والخيانة، وإنسان البادية لا يختلف عن إنسان المدينة في عشق الحرية، والمساواة.

التنظير أمره يسير، والقول دون العمل يحسنه الكثير، ومهما بلغت فصاحة الكلمات، وجاذبية العبارات فهي لا تغني شيئاً إذا تجردت عن العمل، وتصبح شعارات جوفاء تستحق مَقت الله تعالى :” كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ”[الصف:٣]، بل إن ، وقد كان فريق ضمن مجتمع المدينة المنورة يجهد نفسه للتعبير عن صدقه بكثرة الحلف واليمين، فخاطبهم الله بقوله :” لَّا تُقْسِمُوا ۖ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ َۚ”[ النور: 53] .فأفعالنا هي أصدق تعبير عنا، وكما يقال: Actions speak louder than words

هناك عشرات النصوص من القرآن والسنة تأمر بالعدل، وترفع من مكانة المُقسطين، وتَنهى عن الظلم ، وتفضح الظالمين، وهذا القدر من النصوص كافٍ لأن يدفع بالمجتمعات المؤمنة إلى ابتكار الآليات والوسائل التي تحقق قيمة “العدل” ، فهل نجحنا كمجتمعات مسلمة في ذلك؟

نتحدث كثيراً عن الشورى كقيمة إسلامية أصيلة، ونحشد لدعم القيمة كل نصوص القرآن والسنة، وأقوال السلف والخلف وفلاسفة الأمة، والسؤال : ماذا بعد؟!! وما هي أدوات وآليات الشورى؟! وكيف نبث في المصطلح الحياة ليعيش في ظله الأحياء في خير، وسلام؟!

الديمقراطية” كمصلحٍ وافدٍ علينا نظريةٌ أريد من خلالها تحقيق العدالة، ولتحقيق تلك الغاية فقد ابتكر أصحاب تلك النظرية آليات كثيرة، كالانتخابات، ونظام الفصل بين السلطات، وتحديد مهام الحاكم، وسيادة الأمة، وتحديد فترة الرئاسة، ومراقبة الحاكم، ومساءلته، وتفتيت السلطة، والحكم المحلي، ومنظمات المجتمع المدني، وغيرها، وهذه الأدوات تخضع للتقييم والتطوير لتلافي سلبياتها وتعزيز محاسنها؛ ولتكون أكثر فاعلية، وقدرة على الوصول إلى الغاية .

هل بمجرد أن يصدر الحاكم قراراً بتعيين مستشاريه يكون قد حقق مقصود قوله تعالى:” وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ َ”[الشورى:٣٨] والتزم بالتكليف الرباني:” وشاورهم في الأمر” ؟!!

كما كان هامان مستشاراً لفرعون، فإن عتاولة الطغاة في كل زمان لهم مستشارون، ولكن أولئك المستشارين يقدمون الشورى بما يهوى مليكهم، خوفاً على لقمة عيشهم، فهل ابتكرنا الآليات التي تحقق الشورى وتحفظ للمستشار سلامته للقيام بوظيفته ؟ وما الآليات التي من خلالها نحول الآيات، والأحاديث الآمرة بطاعة الحاكم إلى إجراءات وممارسة، وتلك التي تأمر بمناصحته، وقول كلمة الحق في وجهه، وعزله عند الحاجة؟!

أصبح مصطلح مستشار في بلادنا يقابل ” مستشال” وتم إفراغ المعنى من محتواه ، وكل من يتم الاستغناء عن خدماته في الدولة فمآبه “مجلس الشورى”، ليصبح “المستشال” عالة يركض بحثاً عن معاش نهاية الشهر، وهكذا تمت عملية القضاء على معنى الشورى بنجاح!!!!

“الخبرات الإنسانية” مخزون بشري هائل، وهو متاح للجميع، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها، ومن هذا المنطلق فإن استفادتنا من تجارب أمم الأرض اليوم وأدواتهم لتعزيز “قِيمنا” وتطوير آلياتنا أمر في غاية الأهمية، وأما استحضار نظرية المؤامرة في كل شيء، أو جلد الذات وفقدان الثقة “بقيمنا” كلاهما منطق العاجزين من أبناء الأمة الذين لا يُحسنون سوى الصراخ والعويل.

الخميس(٢٨) نوفمبر ٢٠١٨

http://yecm.net