تجديد الأداء بعد سن الأربعين

………………………………….
يختار العديد ممن بلغوا سن الأربعين تقديم المشورة والنصح للجيل السابق من الشباب على اعتبار أنهم وصلوا مرحلة (أشد العمر) والمتميزة بالحكمة الوسطية بين مرحلة الشيخوخة والشباب، ولكن هل باتت الحكمة وحدها قادرةٌ على تقديم المشورة للآخرين؟ إذا علمنا أنَّ ثورة المعلومات المعاصرة والتي لا يحيط ببعض منجزاتها إلا القليل من المثابرين هي الركن الأهم الذي يستند إليه صاحب الرأي إذا سئل المشورة.
ليس جميلاً أن تصبح صفة (الحكمة) مقترنة بالعمر الذي تجاوز الأربعين، ومنعزلةً عن سباق المعرفة وطرق التفكير واختيارات العصر، ولكن من الأفضل أن يقترن تراكم الخبرات المختلفة، واختبار التجارب، وممارسة البدائل للخطة الواحدة، وتحقيق النجاح في جزء من الممارسات، وأخذ العبرة من الإخفاقات جزءً يمثل ركناً من أركان سن الأربعين إضافة إلى مواصلة التعرف على الجديد واستخدامه.
ولكي تستمر الحياة لمن بلغ سن الأربعين عليه مواصلة المسيرة العلمية وعدم الانحسار في جانب الخبرة والتفكير في مشورة الآخرين بل عليه أن يتعلم ويستمر في ذلك، مسترشداً بما رواه الإمام أحمد بن حنبل : ( لا يزال الرجل عالماً ما دام يطلب العلم فإذا ظن أنه علم فقد جهل) فليس العمر إلا رقماً يحصي عدد الأيام التي قضاها الإنسان في هذه الحياة الطويلة، فما هي العلوم الجديدة التي ينبغي لمن وصل سن الأربعين أن يتعلمها؟
هناك أربعة مسارات ينبغي التخطيط لهما قبل الوصول إلى أبواب عمر الأربعين، فالأول يتعلق بالمعلومات الضائعة من التخصص الأصلي، والثاني مواكبة الحاضر وتطوراته المتواصلة، وأمَّا الثالث استخدام النسخ الحديثة من مفاتيح العلم المتعددة، وأمّا الرابع صناعة الشكل الجسدي المتناسب مع الجيل، تلك مسارات أربعةٌ باعتقادي ينبغي أن تحتل الطبيعة المستمرة للحياة فهي ليست متعلقةً بعمر أو بمكان ولكنها تتناسب مع الأربعيني العربي الذي شعر أنَّ الشيب قد غزى شعره، وأنَّ الحكمة قد صُنعت على لسانه.
وسأتحدث عن جانب التدريس في المجالات الإنسانية كنموذج للجديد الذي يتعلمه المدرس مع ابتداء سن الأربعين، فربما بعد سنوات من العمل الطويل وممارسة ذات الخبرة وتكرارها أربعة عشر مرة لا بد أن يراجع المعلم إمكانياته المتعلقة بالمادة المتخصص بها، ومما يقيس القدرات بشكل جيد هو المقابلة لوظيفة جديدة في ذات التخصص، وسأرسم السيناريو الآتي: يُخضع المعلم نفسه لمقابلة مختصيين في ذات الاختصاص لوظيفة ما، ويتعرض لكافة الأسئلة التربوية والاختصاصية ثم بعد ذلك ينظر إذا اجتاز المقابلة أم أخفق بها.
يستطيع المدرس المُقابل أن يحدد قدراته أثناء المقابلة فإذا شعر بإخفاق شديد معنى ذلك أنَّ العديد من المهارات الأساسية قد افتقدها سببها تكرار ذات المهمة لسنوات عديدة وعدم التجدد، وعلى أية حال يبحث عن شركاء في ذات العلم يحملون ذات التوجه للتطور ويبدأ بإعادة دراسة الكتب الأساسية في علمه لمدة لا تتجاوز الثلاثة أشهر ثم يناقش مع زملائه ذات الكتب والمعارف الأساسية في تخصصه.
ثم يُعرض نفسه لمقابلة وظيفية جديدة حقيقية فإذا شعر بأنَ أداؤه لم يتحسن معنى ذلك أنَّ عليه تعلم ما فاته لمدة سنة إضافية ثم ينتقل للمرحلة الثانية ألا وهي تحصيل الجديد في العلم فيدرس المؤلفات الجديدة ثم يكتب ملخصات جيدة يثري بها مادته التي يعلمها للطلاب أثناء فترة التدريس، ويلتحق بدورات تخصصية ويشارك في ورشات عمل ويبقى على اطلاع دائم ومشاركة مستمرة في المجموعات المتخصصة في ذات البرنامج الدراسي.
فإذا شعر أنه تقدم في الخطوتين السابقتين حتى أمتلك تجديداً للمعرفة، وجديداً في العلوم بدأ يتطلع إلى المفاتيح العلمية الجديدة كوسائل التعليم الحديثة والمتعلقة بالتكنولوجيا وطرق التعليم الحديث ويمارسه على أرض الميدان مستخدماً كافة الوسائل التي يختبرها لتصبح له وجهة نظر في المسائل المعاصرة والقضايا الحديثة في تخصصه الدقيق وبالتالي يمتلك مفتاحاً تلو آخر في ميدان التربية والتعليم حتى يمتلك العديد من المفاتيح والوسائل وتصبح له وجهة نظر جديدة قابلة للتجديد.
ومما لا شك فيه أنَ تعلَّم اللغات والمهارات المختلفة لها من الأهمية الشيء الكثير فيضع لنفسه وقتاً لتعلم اللغة الإنجليزية ثم الفرنسية ثم الإسبانية، فيقرأ في تخصصه مستخدماً اللغات الحية ويتعرف على ثقافات الشعوب المختلفة وكيف تمارس مهنة التعليم بطرقها فيختار ما يناسب ثقافته وحضارته وربما يضيف إلى تلك الحضارات شيئاً من معارفه وحضارة شعبه بعد أن يتفوق في اللغة التي يتعلمها.
وأمَّا المسار الأخير والمرافق لكل المسارات يتمثل في حماية الجسد من آفات العمر فممارسة الرياضة والحفاظ على الرشاقة سنة سار عليها الأنبياء، وهي عادةٌ عمل بها مشاهير العالم المعاصر في كافة الميادين وقد قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: ( وإنَّ لجسدك عليك حقاً) وقالت الحكمة: (العقل السليم في الجسم السليم) فمظهر الجسد الرشيق يمنح المدرس ثقةً عالية ويجعل الطلاب في تفاعل مستمر.
إنَّ تلك المسارات تحتاج إلى الإرادة والعمل والتخطيط، ولا يقدر عليها أصحاب الهمم الضعيفة، أو الأحلام البائسة، وربما كان المعلم العربي بائساً لضيق ذات اليد فهو ضحية المجتمع والراتب المتدني، ولكنه بإمكانه أن يُحلق في روحه حول هذه الدنيا ويصنع منها غاياته وأهدافه ويجدد تطلعاته ويغير في عقليته ونظرته إلى الحياة ملغياً يأس الكبر متحدياً الواقع الذي يحياه.