
الكتابة ليست مجرد هواية أو مهارة بل هي للهُواة حياة، وتُربة الكاتب الخصبة تخرج نباتاً بإذن ربها، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً .
بالكتابة انتقلت أخبار الأمم، ومن بطون الكتب والمؤلفات يخرج علمٌ مختلفٌ ألوانه فيه حياة للناس .
تنمو مهارة الكتابة متزامنة مع نمو الإنسان، والكاتب يبلغ أشده كلما تقدم في العمر، وأوقات الذروة العمرية للكاتب هي أوقات الكتابة والعطاء ، وليس للإناء إذا امتلأ بالقراءة إلا أن يفيض على غيره كتابة، وتأليفاً، وتحريراً، وتنقيحاً .
انتقلت أخبار الأمم إلينا بروايات الآباء عن الأجداد، وكل رواية يكتنفها الخطأ والغموض أحياناً، وأحياناً أخرى لا تخلو من المبالغة والخيال، بينما تظل الكتابة هي أصدق تعبير عن إرادة الكاتب.
لماذا ينفر العديد من الأبناء عن الكتابة؟! ولماذا تتضاءل قدرات التلاميذ في التعبير؟! هل هناك خلل في رسالة المدرسة التربوية والعلمية؟!!!
رفع الكثير من معلمي اللغة العربية الراية البيضاء معلنين عجزهم عن دفع التلاميذ نحو الكتابة، وتطوير قدراتهم في التعبير والخط والإملاء…فهل الاستسلام للواقع هو الحل؟!!
أعود بالذاكرة عقوداً لأنقل تجربة لمعلمٍ تأهيلُه متواضع، في قرية من القرى، لم يحضر دورات ولم يلتحق بمعاهد أو جامعات، ومثله الكثير في تلك الحقبة الزمنية، الأستاذ عبدالله راوح نعمان، كان مديراً لمدرسة الثورة – قَدَس، ومربياً للصف الثاني الإبتدائي، وكان يكلف التلاميذ بكتابة السورة القصيرة من القرآن أو القصة مرات عديدة ويتابع الأمر بجدية، ويطلب من تلاميذه التعبير كتابة عن مشاهداتهم اليومية، وطلابه اليوم – وانا واحد منهم- يحتفظون له بعظيم امتنانهم وتقديرهم لجهوده التي ذاقوا طعمها لاحقاً .
ندفع بسبب التكنولوجيا ضريبة باهظة، حيث عزف أبناؤنا عن الكتابة، ولم يعودوا مهتمين بالدقة، فأنظمة الكمبيوتر تقوم بالتدقيق تلقائياً، وهذا يؤثر سلباً على مهارات الكتابة يوماً بعد يوم .
يكفيك أن تقرأ عدداً من الكتابات في وسائل التواصل الاجتماعي لتكتشف حجم الكارثة، فلا تعبير ، ولا إملاء، ولا ذوق ولا أسلوب !! ناهيك عن العامية، وقائمة السب العلنية!! وقد جاء في مجمع الأمثال للميدانيّ: “كل إناء بالذي فيه ينضح”.
الكتابة مهارة، والكاتب يقدم للقراء علماً برع فيه، أو تجربة حياتية خاض غمارها، أو ينقل حدثاً تاريخياً مرّ به، أو قصّة صاغتها أنامله، وبالكتابة انتقلت علوم الأولين وبها ننقل علومنا للآخرين واللاحقين.
دُفنت علوم آلاف البشر مع موتهم، بينما كُتُبُ العديد من العلماء لا تزال تنبُض بالحياة، فالكاتب لا يموت بمفارقة الروح لجسده بل تظل روحه تسري في جسد الأجيال، وقد أحسن شوقي إذ يقول :
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها…فالذِّكر للإنسان عمر ثاني .
لا بد لكي تكتب أن تقرأ، هذه العبارة هي مفتاح التعبير الجميل، والأسلوب الرصين، وحروف الكاتب تجذب بجمالها القارئ أو تكون سبباً للنفور، والكاتب الذي لا يقرأ كالبالونة المنفوخة لا تدفع في وجه القارئ سوى الهواء .
الأجيال تذكر أصحاب الاقلامِ، فما أحرانا أن نكتب!! ورغِم أنف امرئ أدرك عصر التكنولوجيا، وهو قادر على الكتابة فلم يكتب، نكتب في العلوم، وننقل خبراتنا الحياتية للأجيال، ونتحرى المصداقية عند كتابة التاريخ، ونلتزم الأمانة العلمية عند النقل، ونكتب ما نتعلمه، وقد نُسب إلى الشافعي -رحمه الله- القول :
العلمُ صيدٌ والكتابة قيدُه…
قيِّد صيودك بالحبال الواثقة.
الإثنين ١٨ مارس ٢٠١٩