التربية والتعليم وظيفة من لا وظيفة له!!

………………………………………………………
قد يحكم القارئ لأول وهلة على هذا العنوان بالخطأ، ولكن ما أن يمعن النظر في الواقع ويتعمق فيه سيكتشف أن هذه هي الحقيقة المرة والواقع الملموس للأسف الشديد؛ لا سيما فيما يسمى ببلدان العالم الثالث. وحتى لا يجرنا تعميم الحديث حول هذا الموضوع إلى الخوض في تلك البلدان، وحتى يكون الموضوع أكثر تركيزا، فسأطرقه هنا على المستوى اليمني فحسب. حيث تجلت هذه الظاهرة بشكل ملحوظ في اليمن في الآونة الأخيرة لعدة أسباب لا يتسع المقام لذكرها، ولعل من أهمها الحرب التي تعيشها اليمن حاليا والتي ألقت بوبالها على جميع القطاعات.
فمثلا في قطاع التربية والتعليم، فُتحت كثير من المؤسسات والمدارس التربوية والتعليمية الأهلية والخاصة سواء كانت ربحية أو غير ربحية “رسالية” استجابة لتلبية احتياجات كبيرة للمواطنين لا سيما في ظل ضعف الطاقة الاستيعابية للمدارس الحكومية، إضافة إلى ضعف جودة الخدمة التربوية والتعليمية في البعض منها. وهذا قد يحسب لتلك المؤسسات والمدارس التي أخذت على عاتقها جزءاً من مهام الدولة وتولت مسئولية مهمة من مسئولياتها ألا وهي التربية والتعليم. ولكن الذي يندى له الجبين، أن بعضا من تلك المؤسسات والمدارس جعلت مهمة ووظيفة المعلم أرخص المهن وأقلها معاييرا وكفاءة. مما جعل كل من لم يجد له وظيفة من حاملي الدرجة الجامعية يجد له ملاذا فيها. قد يكون لتلك المؤسسات والمدارس مبرراتها في ذلك، ولكن تلك المبررات لا ترقى إلى مستوى الخطأ الذي قد يُرتكب في حق أجيال قادمة.
قد يظن القارئ أننا نبالغ في تعاطي الموضوع ونهوله! ولكننا نلاحظ في بعض من تلك المؤسسات والمدارس أنها توظف كل ذوي التخصصات الجامعية المختلفة الذين يتقدمون لها كمعلمين، بل وربما حتى من هم دون المستوى الجامعي، مستغلة بذلك حاجة خريجي الجامعات من مختلف التخصصات الذين لا يجدون لهم مكاناً في سوق العمل المتهالك نظرا لظروف البلد. ظنا من تلك المؤسسات والمدارس أن كل من امتلك مؤهلا جامعيا قادر على أن يؤدي رسالة التربية والتعليم. وبهذا فقد ارتكبت تلك المؤسسات والمدارس خطأً كبيرا في حق أجيال المستقبل بغير قصد منها.
وكما يقال: “بالمثال يتضح المقال”، فلو افترضنا أن شركة في مجال الهندسة المدنية أرادت بناء مجمعات سكنية في مدينة ما؛ ولهذا احتاجت لعدد من المهندسين المعماريين في مجال التصميم والانشاء، فهل يا ترى ستفتح الشركة أبوابها لكل خريجي الجامعات بمختلف تخصصاتهم أم ستختار المهندسين المتخصصين في التصميم والإنشاء. لا يختلف اثنان على أن الإجابة الصحيحة هي الثانية. ببساطة لأن الشركة ليس لديها الرغبة أن تجازف بانشاء مشروع عبر موظفين غير متخصصين سرعان ما يهوي فوق رؤوس ساكنيه، بل ربما فوق رؤوس عمال تلك الشركة قبل ذلك، علاوة عن الخسائر المادية التي قد تودي بإلغاء تلك الشركة من على الوجود. لعلكم لاحظتم من هذا المثال أن التوظيف في غير التخصص تكون عواقبه وخيمة وسريعة أيضا. لذا فإن كثيرا من الشركات والمصانع لا توظف إلا ذا تخصص وخبرة كل في مجاله حتى لا تخسر الكثير بسبب اهمالها في ذلك؛ لأن أي تساهل وعدم دقة في المعايير والمواصفات لاشك سيؤدي إلى طريق واحد هو الفشل الذريع والخسائر في الأرواح والمعدات. وإن كنا هنا لسنا بصدد اثبات أن كل ذا تخصص ناجح في تخصصه، ولكن تؤخذ الأمور بظاهرها.
وبالمقابل لعل ما سوّل للمؤسسات والمدارس في الاستهانة بأمر توظيف كل خريج جامعي “كمعلم” بغض النظر عن تخصصه وخبرته وكفاءته هو أن الضرر الذي سيلحقه هذا المعلم أو ذاك ونتائجه على الجيل ليست سريعة الادراك. بمعنى ليس كالمصمم غير المتخصص الذي صمم مبنى فسقط في أسابيع إقامته الأولى. وإنما سيكون الضرر ونتائجه على المستوى الزمني المتوسط والبعيد المدى للجيل. وبالتالي لن يتم ادراك الضرر ومن المتسبب فيه تحديدا؟! مثلا قد ينسحب عشرات الأطفال من المدارس نظرا لسلوك معلم غير تربوي أو لعدم تخصصه. وقد يكره عشرات الأطفال نوعا معينا من العلوم نظرا لطريقة معلم غير متخصص عقدهم منذ الوهلة الأولى. لعل مما يحزن للأسف الشديد هو أن ذلك الخطأ لا يدرك إلا عند تتبع نسب الأطفال المنسحبين من المدارس، ونسب من يكمل تعليمه مقارنة بمن يكتفي ببضع سنوات من التعليم، ونسب الأمية في سن الشباب وخصوصا ممن هم بين سن 18 إلى 30 سنة. وللأسف حين ادراك ذلك قد لا يُعرف المتسبب الرئيس في وصول هذه النسب إلى أرقام خيالية نظرا لتعدد العوامل التي أوصلت إلى تلك النتائج.
لهذا على كل من امتلك قرار التوظيف في المؤسسات التربوية والتعليمية حكومية كانت أم أهلية ربحية أم رسالية، أن يحذر أن يكون أحد عوامل الهدم بدلا من أن يكون أحد عوامل البناء. ويجب عليه أن يحذر أن يساهم في مثل هذا الخطأ بدون قصد منه و أعني -خطأ أن تكون التربية والتعليم وظيفة من لا وظيفة له-.
http://yecm.net
ماليزيا، 25 مارس 2019