
الإثنين ١٣ مايو ٢٠١٩
يحكي لي أحد الأصدقاء بأنه أوكِلت إليه مهمة توزيع سلال غذائية للمحتاجين من أبناء الجالية اليمنية بماليزيا، كنوع من المواساة والتعاون في هذا الشهر الكريم، ولعمري فترسيخ قيم التعاون والتكافل أمر في غاية الأهمية وقضية في قمة سُلم الصالحات، ولكن هل هناك آثار سلبية مرافقة لتوزيع السلال الغذائية؟!!!!!!
يمضي صديقي في حديثه قائلاً:” البعض يزاحم المحتاجين على الرغم من أنه في سَعة من المال، ويعتبر بأن له حق في السلال الغذائية كما للآخرين حق، وإذا تم استثناء أحد لأنه خارج دائرة الاحتياج أو بسبب أن ظروفه تحسنت، فإننا نتعرض لأشد عبارات الأذى والنقد، ونُتَّهم بأننا أسقطنا حقه الثابت سنوياً”، ويؤكد لي آخر بأنه تفاجأ في عام مضى حضور أحدهم ليسلم سلة غذائية بسيارته الفارهة .
إنها ثقافة التسول -التي امتهنها البعض-تسود في وسط الشعب المقهور، وتتحول يوماً بعد يوم إلى ظاهرة تأتي على ما بقي للمجتمع من كرامة وعزة.
عادت بي الذاكرة إلى بلدي الحبيب -اليمن- في فترة الاستقرار حينما كانت بعض الجمعيات تقوم بتوزيع مواد غذائية في موسم رمضان فإذا ببعض الميسورين الذين نعرفهم يتقدمون صفوف المحتاجين !!! وقد تظنون بأني أبالغ حينما أخبركم بأن البعض من هولاء الذين اعرفهم يمتلك عمارة أو عقاراً يغنيه عن مذلة السؤال، ولكنها دناءة النفس التي دفعت به إلى مزاحمة الفقراء والمحتاجين !!
يخطئ بعض رجال الأعمال حينما يبحثون عن المحتاجين في صفوف المتسولين، ويغفلون بأن المحتاجين هم – كما وصفهم الله: “لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ” (البقرة:273) [لا يسألون الناس إلحافا : لا يلحون في المسألة .ابن كثير].
شعور رجال الأعمال بالفقراء والمحتاجين أمر جيد، ولكن الأجود منه هو الحفاظ على كرامتهم. فأي معانٍ للعزة والكرامة تبقى، ونحن نشاهد تزاحم أولئكم المحتاجين وغير المحتاجين، على أبواب رجال الأعمال والمسؤولين؟!!!!
الكارثة الكبرى هي التعايش مع التسول والتسابق على فضلات الأغنياء، وإلى هؤلاء أسوق حديث نبينا المصطفى(ﷺ) في الصحيح :” لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزعة لحم” .[مُزعة لحم : قِطعة].
“السلة الغذائية” مع أهميتها إلا أنها لا تعني سوى ذَرِّ رماد الرضى على عيون بعض رجال الأعمال وإقناعهم بأن توزيع السلة الغذائية هو الأهم في الأيام الرمضانية.
في ماليزيا -على سبيل المثال- تنتشر الإفطارات في جميع مساجدها ومصلياتها تقريباً، وهذا يفوق السلال الغذائية التي يتزاحم عليها الفقراء والأغنياء على السواء!!!
لرجال الأعمال وأصحاب القلوب الرقيقة أود أن ألفت نظركم للعديد من القضايا التي أرى أهميتها في ضبط البوصلة، ومن ذلك:
١- هناك مئات من الطلاب العاجزين عن دفع رسوم الدراسة في الجامعات والمدارس، وهم مستقبل اليمن، أفلا يستحقون حشد الدعم للوقوف معهم؟!!!
٢- هناك مئات الأسر الفقيرة والقادرة على العمل ويفتقرون إلى التدريب والتأهيل، أليس من الأصوب تأهيلهم، وتدريبهم وإكسابهم، مهارات للحصول على أعمال تغنيهم عن مذلة السؤال .
٣- أليست أجمل الصور تلك التي يمكن أن نلتقطها إلى جوار أبنائنا وهم يستلمون شهادات مبتكراتهم الجديدة، وليست تلك التي نلتقطها مع استلامهم للسلال الغذائية ؟!
٤- إن كان ولا بد من “سلة غذائية” فلماذا لا تكون عن طريق الكوبونات أو البطائق التي تصرف للمحتاجين -فقط- وبشكل سري يحافظ على كرامتهم وعزتهم .
٥-هناك الكثير من اليمنيين الذين ألقت بهم الأحداث إلى دول الاغتراب في السجون بسبب العجز عن دفع إيجار أو الوفاء بسداد الدَّيْن أو غير ذلك من الأسباب، أليس لهؤلاء علينا حق؟!!!
٦- هناك الكثير من العالقين في بلاد الغُربة، ولا يمتلكون القدرة على العودة إلى بلادهم وقد اقتنعوا بأن يستسلموا لمصيرهم وفضلوا الموت الكريم على أرضهم عن امتهان كرامتهم، ألا يستحق هؤلاء تذاكر للعودة ؟!!!! أم أن السلة الغذائية ستتكفل بنقلهم وعودتهم سالمين غانمين إلى بقايا بلد كانت تُعرف باليمن السعيد ؟!!!!
٧- إن لم يكن لدى بعض رجال الأعمال والميسورين قدرة على القيام بواجبهم فلا أقل من كفهم عن الأذى، والله يقول :«قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى» (البقرة:263) وهل يوجد أشد من الأذى الذي يسهم في قتل معاني الكرامة والعزة لدى الناس، وهل في التقاط صورهم عند استلامهم للسلال الغذائية أي احترام أو تقدير لمعاني الإنسانية ؟!!!!
أختم حديثي لرجال الأعمال والمؤسسات الخيرية فأقول: فتشوا عن المحتاجين في بيوتهم ، واذهبوا أنتم إليهم ولا تنتظرونهم على أبوابكم، وأما الصور التي تلتقطونها فهي تزيد الطين بلة، وتهدر ما تبَقّى من كرامة وعزة.