الاستبداد والشورى

الاستبداد والشورى ( ملكة سبأ أنموذجاً) د.عبدالقوي القدسي

الاستبداد والشورى
    د.عبدالقوي القدسي

تحضر ملكة سبأ لدى الكثيرين عند كل حديث عن الشورى أو الاستبداد ، فهل كانت الملكة أنموذجاً في الشورى؟

كان لملكة سبأ عرش عظيم، وعاشت في نفس الفترة الزمنية التي عاش فيها سليمان (عليه السلام).
وسليمان أُوتي النبوة، وأوتي مُلكاً عظيماً، لا ينبغي لأحدٍ من بعده.

قرأت الملكة كتابَ سليمان -عليه السلام- على الملأ، وفيه :”أن لا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين”.
والملكة، وحاشيتها يعرفون جيداً من يكون سليمان !!

تقول الملكة وهي تدرك خطورة الموقف :” ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون”.

بماذا أشار الملأ على الملكة؟
لقد اكتفوا بإظهار استعدادهم لتنفيذ الأمر، فهم أولو قوة وأولو بأسٍ شديد!!
إن إظهارهم قوة المملكة، وعزمهم وشدتهم يريح مزاجها، ويُهدئ من روعها، وهذه هي النتيجة المقبولة للمشورة !!

الملأ مجرد موظفين لدى الملكة، فرأيهم هو ما تراه مليكتهم، فقد قالوا بصوت واحد : ” والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين “. هذه هي الحقيقة. الأمر أمرها، والصواب نظرتها ، وهم رهن إشارتها !! فأين حقيقة الشورى وأين ممارسة الديمقراطية؟!

تقول الملكة: “إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها”،وقد صدقت ، فهذه سُنة الملوك، وتثير مخاوف الحاشية بقولها: “وجعلوا أعزة أهلها أذلة ” والحليم تكفيه الإشارة، كما يقال!!

هل أرادت الملكة فرض أمر واقع، والتمهيد للاستسلام؟! أم إنها أرادت بث روح الحماس لدى الحاشية للمواجهة الحاسمة؛ دفاعاً عن المملكة، وعن امتيازات السلطة الحاكمة ؟!! أم أنها أرادت اختبار ولاء الحاشية، فلطالما يؤتَى المرء من مأمنه؟!!

تُقرر الملكة إرسال هدايا نفيسة للملك؛ لعلها تستميل قلبه، وتصرفه عن مقصده، وتدفعه للتراجع عن أمره، وهنا تحدث المفاجأة !! سليمان (عليه السلام) يرد جميع الهدايا، ويقول باستغناء واستعلاء : “أتمدونني بمال فما آتانيَ اللهُ خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون “.

لم يقف الأمر عند هذا الحد، لقد تلقّت الملكة تهديداً شديد اللهجة، وفيه:”فلنأتينهم بجنودِ لا قِبَل لهم بها. ولنخرجنهم منها أذلةً، وهم صاغرون”.

أيقنت الملكة بأن الدمار والذل والصّغار، هو ثمن المقاومة، فقررت رفع الراية البيضاء، والمسير إلى سليمان دون إبطاء!!

اتخذت الملكة القرار دون أن تلتفت إلى الملأ، وأين الملأ؟!! لقد تواروا بالحجاب، ولاذوا بالصمت، وهل يجرؤ أحد منهم على الاعتراض ؟!!

على ما يبدو فقد كانت الملكة ذات عقل راجح، أو أنها فضلت السلامة والسلام على المغامرة والحرب، شأن الكثير من الزعماء قديماً وحديثاً، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها امرأة، والأنثى في الغالب تميل إلى الموادعة والمسالمة .

هل يمكن اعتبار ملكة سبأ أنموذجاً يُحتذى به في تطبيق الشورى، أم إنها حلقة في سلسلة المستبدين !!

مستشارو المستبدين هم مجموعة من الموظفين أو المقربين، وهم بطانة السلطان، وحاشيته، يشاورهم ويأنس إليهم، وهم يزينون له الباطل ويشيرون عليه بما يسره، ولا يُسمِعونه إلا ما يُحب، ويحجبون عنه ما يكره، ولا يشذ عن هذه القاعدة إلا ما ندَر!!

“ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا له بِطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصمه الله ” [حديث أخرجه البخاري]

الطاغية ورمز الاستبداد فرعون شاور الملأ في شأن موسى ،وهارون فقالوا له : ” أرجِه وأخاه وأرْسِل في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحّار عليم ” وأخذ بالمشورة!! ونادى في مستشاريه قائلاً ” ذروني أقتل موسى وليدع ربه” لكنه لم يفعل بناء على مشورة الملأ !! فهل كان فرعون رمزاً للشورى، والديمقراطية؟!!

كانت لقريش دار الندوة، يتشاورون فيها، وكان الرومان والفرس واليونان، وسائر أمم الأرض يمارسون الشورى بطرق متعددة، وبنسب مختلفة، والسؤال هنا : هل يجتمع الاستبداد، والشورى؟!!

هناك فرق بين الشورى الصُّورية، والشورى الحقيقية، فالشورى الصورية هي صنيعة المستبدين، يُفصّلهونها على مقاسهم، ويَمُنّون بها على شعوبهم، بينما المستبد هو صاحب القرار أولاً وآخراً، وما الشورى إلا مكياجاً لوجهه القبيح، فهو يستشير بِطانته، وهي تزين له كل أفعاله، وتشير عليه بما يناسب هواه ، وتُوهمه بأن كل شيء على ما يرام، وبأن الرعية تعيش في بحبوحة من العيش، وفي أمن وأمان ، وتهتف باسمه في كل حين وآن، لسان حالهم : كل شيء تمام يا فندم!!

لدينا مجالس للشورى، لكنها لا تشير على الحاكم إلا بما يشاء فهي تُمثّله، ولا تمثل الشعب ، ومصالحها معه، وليست مع الشعب !!

الشورى الحقيقية : هي صنيعة الشعب، فالشعب هو صاحب السلطة، وهو من يختار أهل الشورى ، وآراء هؤلاء ليس للحاكم عليها سلطان، كما أنه لا يملك الحق في عزلهم، أو يجرؤ على إهانتهم .

لا يستطيع الحاكم في إطار الشورى الحقّة إلا أن يستجيب لرأي ممثلي الأمة، وأن يضبط حركته بناء على الشورى .

إن زعماء العالم المتحضر اليوم يمكن أن يُطلق عليهم أنهم “أصحاب قرار”، لكنهم ليسو “صُناع قرار” ، فالقرار للشعب يصنعه ممثلوه في البرلمان، أو مجلس النواب أو الشيوخ أو الأعيان، وهذا تطور إنساني غير مسبوق في ممارسة الشعب لصلاحياته عبر مؤسساته الدستورية .

إننا بحاجة ماسة، ونحن نتحدث عن النهضة المنشودة أن نستحضر الخبرات البشرية في كل مجال ، والعجز كل العجز، أن نقف عند الشعارات أو المفاهيم الواسعة المجردة ك(الشورى) دون تحويلها إلى ممارسات، وإجراءات مضبوطة بنظام قابل للتنفيذ، والممارسة، معبراً عن الإرادة الجمعية للشعب أو للأمة.

http://yecm.net